.
نبيُّ الشّاشة الزرقاء
.
في إحدى المدن المزدحمة، التي تتلألأ أضواؤها ليلًا كأنها مجرة في قلب الأرض، ظهر رجل يُدعى "سالم". كان سالم موظفًا عاديًا في شركة لتطوير البرمجيات، يقضي يومه بين الأكواد والشاشات الزرقاء التي لا تفارقه. رجل وحيد، منطوٍ على نفسه، يعيش في عالمه الخاص، حتى بدأت تظهر عليه أعراض غريبة.
في أحد الأيام، بينما كان سالم يعمل على برنامج معقد، توقفت شاشته فجأة، وظهرت رسالة غامضة: "أنت المختار. العالم يحتاجك لتوجيهه نحو الخلاص". اعتقد في البداية أن الأمر مزحة من أحد زملائه، لكن الرسالة كانت تتكرر في كل جهاز يلمسه، حتى على هاتفه الشخصي.
بعد عدة أيام من التفكير والقلق، أعلن سالم أمام زملائه: "لقد تلقيت رسالة من عالمٍ أعلى. أنا نبي هذا العصر، وسأقود البشرية نحو الحقيقة المطلقة."
بدأ سالم دعوته عبر الإنترنت، مستخدمًا منصات التواصل الاجتماعي كمنبر له. أطلق قناته الخاصة على الإنترنت بعنوان "رسائل السماء الرقمية". تحدث عن رؤى غامضة، وبرمجيات خارقة يزعم أنها رسائل من قوى عليا. كانت رسائله تتحدث عن "النظام العالمي الجديد" و"تحرير البشرية من عبودية الخوارزميات".
في البداية، ظنه الناس مجرد شخص يسعى للشهرة، لكن مع مرور الوقت، بدأ يجذب أتباعًا. كان أغلبهم من أولئك الذين سئموا التكنولوجيا ورأوا في كلماته نوعًا من الحكمة. وأطلقوا عليه لقب "نبي العصر الرقمي".
مع ازدياد شعبيته، بدأ سالم يُطلق تطبيقات ادعى أنها "كتب مقدسة"، تحتوي على تعليماته وأفكاره. لكنه سرعان ما أثار الجدل بدعوته الناس إلى التخلص من أجهزتهم الذكية والتواصل عبر "الطاقة الذهنية". أتباعه بدأوا يتصرفون بغرابة، حيث يُغلقون هواتفهم، ويتوقفون عن استخدام الإنترنت، ويجلسون لساعات يتأملون.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. بدأ سالم ينظم تجمعات ضخمة في المدينة، حيث يُلقي خطبًا نارية عن خطر التكنولوجيا وكيف أنها تسلب الإنسان روحه. في أحد هذه التجمعات، صعد على المسرح وأعلن: "هذا هو يوم الخلاص! عليكم أن تتحرروا الآن!"
طلب من الحضور تحطيم أجهزتهم أمامه، وألقى هاتفه الشخصي على الأرض محطمًا إياه. الحشود تجاوبت، وتحوّل الحدث إلى فوضى عارمة.
في خضم هذه الأحداث، تدخلت السلطات. تم القبض على سالم للتحقيق معه بعد أن اتهمه بعض الأهالي بالتسبب في اضطرابات اجتماعية. أثناء التحقيق، تحدث عن الرسائل السماوية التي تلقاها وكيف أنه كان يحاول إنقاذ البشرية.
بعد تقييم حالته العقلية، تم تحويل سالم إلى مستشفى الأمراض النفسية. الأطباء شخصوا حالته باضطراب ذهاني ناتج عن العزلة والإفراط في استخدام التكنولوجيا.
في غرفته بالمستشفى، كان سالم يجلس أمام جدار فارغ، يتحدث كما لو أنه يخاطب جمهورًا. يقول للأطباء والممرضين الذين يزورونه: "ستدركون يومًا أنني كنت على حق. عندما يتوقف العالم عن التفكير بآلاته، ستذكرونني."
رغم اختفاء سالم من المشهد، بقيت قناته على الإنترنت وأفكاره التي تناقلها أتباعه. تحول "نبي الشاشة الزرقاء" إلى رمز لبعض الأشخاص الذين رفضوا التكنولوجيا وعاشوا بعيدًا عن الحياة الحديثة.
لكن بالنسبة لمعظم الناس، كان سالم درسًا عن خطورة الانغماس في العوالم الرقمية، وكيف يمكن أن تبتلع الإنسان حتى يفقد عقله.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق