.
النافذة الغامضة
.
في حيّ هادئ على أطراف المدينة، كانت المنازل تتراص بجانب بعضها البعض مثل أحجار دومينو متشابهة، إلا منزلًا واحدًا كان مختلفًا. كان منزلاً كبيرًا قديمًا ذا نوافذ عتيقة تغطيها ستائر ثقيلة، وكأن صاحبته تخشى من أن يعرف العالم أسرار الداخل. كانت تسكنه امرأة عجوز تُدعى "جورجيت"، لا يراها الجيران إلا نادرًا، وتحيط بها قصص غامضة يرويها سكان الحي.
"كريم"، صبي في الثانية عشرة من عمره، كان شغوفًا بالاستكشاف وحب المغامرة. في إحدى الليالي، بينما كان يطل من نافذة غرفته المطلة على منزل "جورجيت"، لاحظ أضواء غريبة تومض من نافذتها العلوية. كانت الأضواء زرقاء وخضراء، تتراقص وكأنها تنتمي لعالم آخر.
تملكه الفضول وقرر أن يراقبها كل ليلة. كانت الأضواء تظهر في نفس التوقيت، بعد منتصف الليل بدقائق قليلة، ثم تختفي فجأة. حاول أن يخبر والديه بما رآه، لكنهما لم يعيرا الأمر اهتمامًا، معتقدين أن خياله الطفولي هو ما يصنع تلك القصة.
لم يستطع كريم تجاهل الأمر، فقرر أن يتحقق بنفسه. في مساء الجمعة، عندما خيّم الهدوء على الحي، تسلل كريم من غرفته عبر نافذة صغيرة تطل على الحديقة، حاملاً معه مصباحًا صغيرًا ودفتر ملاحظات. كان الهواء باردًا، والشارع مهجورًا، وكأن المدينة بأكملها تغط في سبات عميق.
وقف كريم تحت نافذة جورجيت ونظر للأعلى. كانت الأضواء تظهر بوضوح، لكنها بدت وكأنها تتحرك داخل الغرفة، كما لو كانت تعبر عن شيء حيّ.
في تلك اللحظة، انفتح باب المنزل ببطء، لتظهر "جورجيت" واقفة على العتبة. كانت تحمل فانوسًا قديمًا، وبدت أطول مما توقع، بوجهها الذي تكسوه التجاعيد ونظرتها الثاقبة. قالت بصوت منخفض لكنه حازم:
"أعلم أنك هنا، كريم. تعال، لا داعي للاختباء."
ارتجف كريم، لكنه استجمع شجاعته وتقدم نحوها ببطء. سألها بصوت متردد: "ما هذه الأضواء التي أراها كل ليلة؟ هل تخبئين شيئًا هناك؟"
ابتسمت جورجيت ابتسامة غامضة وأجابته: "إذا كنت تريد أن تعرف الحقيقة، عليك أن تراها بنفسك. لكن عليك أن تعدني بأن ما ستراه سيبقى سرًا بيننا."
أومأ كريم برأسه، وسمحت له بالدخول. كان المنزل مليئًا بالكتب القديمة والتحف الغريبة، ورائحة عتيقة تعبق في الهواء.
قادته جورجيت إلى الطابق العلوي، إلى الغرفة التي كانت تصدر منها الأضواء. فتحت الباب ببطء، فظهرت غرفة مليئة بالأدوات الغريبة؛ مرايا متكسرة، كرات بلورية، ومخطوطات قديمة مكتوبة بلغات غير مفهومة. في منتصف الغرفة، كان هناك جهاز غريب يشبه الكرة الزجاجية الكبيرة التي ينبعث منها الضوء الملون.
قالت جورجيت بصوت هادئ: "هذه ليست مجرد أضواء، كريم. هذا جهاز قديم يساعدني على التواصل مع الماضي. هناك أشياء في حياتي تحتاج إلى إصلاح."
حدق كريم في الجهاز بدهشة وسألها: "لماذا تريدين التواصل مع الماضي؟ ماذا تحاولين تغييره؟"
تنهدت جورجيت وجلست على كرسي قريب: "قبل سنوات طويلة، ارتكبت خطأً كبيرًا، وخسرت عائلتي بسبب ذلك. أنا أحاول تصحيح ذلك الخطأ، لكن الوقت لا يسير كما نتمنى. أحيانًا، أرى ماضيَّ يتراقص أمامي في هذه الأضواء، لكنه يهرب مني دائمًا."
طلبت جورجيت من كريم أن يقترب من الجهاز، وعندما لمس سطحه الزجاجي، شعر بتيار كهربائي خفيف يجتاح جسده. فجأة، تغير المشهد أمام عينيه؛ وجد نفسه في مكان مختلف تمامًا. كان يقف في حديقة مليئة بالأشجار القديمة، ورأى امرأة شابة تشبه جورجيت كثيرًا تلعب مع طفلة صغيرة.
فهم كريم أنه يرى الماضي الذي تحدثت عنه جورجيت. حاول أن يقترب منهما، لكنه شعر بشيء يسحبه بعيدًا. استيقظ ليجد نفسه مجددًا في الغرفة، وقد أغمضت جورجيت عينيها وكأنها كانت تعيش اللحظة معه.
شكرته جورجيت على شجاعته وقالت: "قد لا أستطيع إصلاح الماضي، لكن معرفتي أنه ما زال هناك، ولو في ذكرياتي، تجعلني أتمسك بالحياة أكثر."
غادر كريم المنزل تلك الليلة، لكنه لم ينس ما رآه أبدًا. توقفت الأضواء عن الظهور بعد تلك الليلة، وكأن جورجيت أغلقت فصلًا من حياتها.
مرت الأيام، وفي أحد الأيام لاحظ كريم أن المنزل قد أصبح مهجورًا. لم يعرف أحد أين ذهبت جورجيت، لكنها تركت أثرًا في ذاكرته، وأدرك أن الماضي قد يكون مليئًا بالأسرار، لكنه جزء لا يتجزأ من الحاضر والمستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق