.
المقايضة الغامضة
.
في زاوية معتمة من السوق القديم، حيث تتداخل الروائح المختلفة من التوابل، والبخور، والعطور، وقف رجل غريب بجانب عربة خشبية صغيرة. بدا الرجل وكأنه خرج من زمن بعيد، يرتدي معطفًا طويلًا باهت اللون وقبعة عريضة تُخفي ملامحه. لم يكن أحد يعرف إسمه، لكنه كان يُعرف في أرجاء المدينة بـ"بائع المعجزات".
عُرفت عربة الرجل بمظهرها الغريب؛ خشبها القديم محفور عليه رموز غامضة، تتوهج أحيانًا بضوء باهت كما لو أنها حيّة. خلف العربة، رُصّت صناديق صغيرة مغطّاة بأقمشة سوداء. على لوح خشبي مُهترئ أمامه، كُتب بخط يد مرتجف: "أشياء لا تُقدّر بثمن مقابل شيء لا يُقال".
لم يكن أحد يعرف طبيعة تلك "الأشياء" التي يقدمها، لكن القصص عنه كانت تنتشر كالنار في الهشيم.
في صباح يوم رمادي ثقيل، تقدمت فتاة تُدعى ليلى نحو عربة البائع. كانت ليلى فتاة طموحة تعيش حياة متواضعة وتعمل بائعة زهور. لكن قلبها كان مُثقلًا بحزن عميق؛ فقد أُصيبت والدتها بمرض خطير، ولم يكن لدى ليلى المال لعلاجها.
وقفت أمام البائع، تحاول استجماع شجاعتها. رفع الرجل رأسه ببطء، وعيناه كأنهما حُفرتان مظلمتان لا قاع لهما. قال بصوت هادئ لكنه يحمل ثقلًا غامضًا: "أنتِ تبحثين عن أمل."
ارتجفت ليلى، لكنها أومأت برأسها. أشار الرجل إلى صندوق صغير يغطّيه قماش سميك أسود. "في هذا الصندوق علاج لوالدتك. ولكن المقايضة ليست بالمال."
ترددت ليلى، لكنها وافقت. شعرت بوخز خفيف في معصمها عند توقيعها اتفاقًا غامضًا كتبه الرجل بلغة لم تفهمها. أعطاها الصندوق، وعادت به إلى المنزل.
داخل الصندوق، وجدت ليلى زجاجة صغيرة تحتوي على سائل بلون الفضة لا رائحة له. لم تكن تعرف كيف تستخدمه، لكنها صبّته في كوب وقدّمته لوالدتها. في غضون دقائق، إستعاد وجه والدتها نضارته، وعادت تتنفس بسهولة كما لو أن المرض لم يكن موجودًا.
لكن الفرحة لم تدم طويلًا. ففي صباح اليوم التالي، إستيقظت ليلى لتجد أنها فقدت القدرة على الكلام. صراخها لم يُسمع، وكلماتها تحوّلت إلى فراغ.
مع مرور الأيام، بدأت ليلى بمراقبة البائع عن بعد. إكتشفت أن من يتعامل معه يفقد شيئًا غاليًا لديه: صوت، ذاكرة، أو حتى عاطفة معينة. لم يكن أحد يعرف كيف يختار البائع ما يأخذه، لكنه دائمًا يختار شيئًا لا يقدّره الشخص في البداية، لكنه يصبح جوهريًا فيما بعد.
حاولت ليلى إستعادة صوتها. ذهبت إليه مرة أخرى، لكنه رفض. "المقايضات لا تُلغى،" قال لها. لكن عينيه كانتا تحملان نظرة حزن، كما لو أنّه لا يستمتع بما يفعل.
في يوم عاصف، قرّر شاب مغامر يُدعى عادل مواجهة البائع. كان عادل قد فقد ذكرياته عن حبه الأول بعد أن أخذ منه البائع "ذكرى ثمينة" مقابل قوة خارقة.
"لماذا تفعل هذا؟" سأله عادل بغضب.
تنهّد البائع وأجاب بصوت خافت: "أنا أسير لعنة قديمة. أُجبرت على تقديم هذه المقايضات لجمع أرواح الأشياء التي لا تُقدّر بثمن. عندما يصل الصندوق الأخير إلى الاكتمال، أستطيع أن أتحرر."
أثار هذا الكلام فضول عادل، لكنه لم يستطع معرفة المزيد؛ فقد إختفى البائع وسط ضباب كثيف.
ظل السوق يروي قصص البائع الغامض، وظلّ الناس يتردّدون بين الخوف والرغبة. هل يستحق الأمر المقايضة فعلاً؟ وهل سيأتي يوم يُكشف فيه سرّ البائع؟
ربما كانت الإجابة مخفية داخل أحد صناديقه الغامضة، في إنتظار من يمتلك الشجاعة لكسر القواعد.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق