حارس الجبل
في قرية "وادي النسيان" النائية، المختبئة بين ثنايا جبال شاهقة وغابات كثيفة، عاش رجل يدعى سليم. كان الجميع في القرية يطلقون عليه "المجنون"، وكانوا يبتعدون عن طريقه كلما مر بجانبهم، وكان الأطفال يرمونه بالحجارة أحيانًا ويهربون ضاحكين.
كان سليم في السبعين من عمره، نحيل الجسد، طويل القامة، ذو لحية بيضاء كثيفة غير مهذبة تتناثر فيها بقايا طعام وأوراق شجر صغيرة. كانت عيناه زرقاوان غائرتان، تلمعان بشكل غريب حتى في الظلام. كان يرتدي دائمًا معطفًا باليًا رماديًا طويلًا، ممزقًا من عدة أماكن، وتحته قميصًا مهترئًا وسروالًا بني اللون مليئًا بالرقع.
كان منزل سليم كوخًا صغيرًا من الطين والخشب، بناه بنفسه على سفح الجبل المطل على القرية. وكان ينفرد به وحيدًا، بعيدًا عن الناس. لم يكن أحد يزوره سوى قطة سوداء هزيلة كان يطعمها ببقايا طعامه، ويحدثها كأنها إنسان يفهم.
في كل صباح، كان سليم يخرج من كوخه حاملًا عصا خشبية سميكة منحوتة بأشكال غريبة، ويمشي بخطوات بطيئة متعرجة، وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة. كان يتجه دائمًا إلى قمة الجبل، حيث يقف هناك لساعات طويلة وهو يحدق في الأفق، ويشير بعصاه نحو السماء أحيانًا، ويصرخ بكلمات مبهمة.
في أمسيات الشتاء الباردة، كان سكان القرية يجتمعون حول مواقد النار، ويتبادلون القصص والحكايات، وكثيرًا ما كان سليم "المجنون" موضوع حديثهم.
قال العجوز حسن، أكبر رجال القرية سنًا: "كان سليم في شبابه شاعرًا موهوبًا، وكان الناس يأتون من قرى بعيدة ليستمعوا إليه وهو ينشد قصائده. لكن في يوم من الأيام، أحب فتاة جميلة تدعى ليلى، وأراد أن يتزوجها، لكن أهلها رفضوا وزوجوها من رجل غني من قرية مجاورة."
وأضافت العجوز فاطمة: "بعد زواج ليلى، انعزل سليم عن الناس، وتوقف عن إنشاد الشعر، وبدأ يتصرف بغرابة. وفي ليلة عاصفة، اختفى لعدة أيام، ثم عاد وهو في حالة غريبة، وكان يقول إنه تحدث مع الجبل، وأن الجبل أخبره بأسرار كثيرة."
ضحك بعض الشباب من هذه القصص، لكن كبار السن كانوا يستمعون باهتمام ورهبة.
كان الجميع يعتقدون أن سليم مجنون، لكن في حقيقة الأمر، كان سليم يحمل سرًا عميقًا لم يكن أحد في القرية يعرفه.
ففي تلك الليلة العاصفة التي اختفى فيها، صعد سليم إلى قمة الجبل، وهناك، في كهف صغير خفي، اكتشف نقوشًا قديمة على الجدران تروي قصة قديمة عن كارثة طبيعية ستحل بالقرية بعد مئات السنين. ومنذ ذلك اليوم، أخذ سليم على عاتقه مهمة حماية القرية من هذه الكارثة.
كان صعوده اليومي إلى الجبل ليس مجرد نزهة لمجنون، بل كان يراقب علامات معينة في السماء وفي الطبيعة، وكان يقوم بطقوس غريبة تعلمها من تلك النقوش، معتقدًا أنها ستبعد الخطر عن القرية.
وفي يوم من أيام الشتاء القاسية، لم يظهر سليم كعادته. مر اليوم دون أن يراه أحد. وفي اليوم التالي، تسلق بعض الشباب الشجعان إلى كوخه ليتفقدوه، فوجدوه ممددًا على سريره البسيط، فاقد الحياة، وعلى وجهه ابتسامة غريبة هادئة، وبجانبه كانت قطته السوداء تموء بحزن.
بعد دفن سليم، قرر بعض الفضوليين تفتيش كوخه. وهناك، وجدوا مئات الأوراق المليئة بالكتابات والرسومات، ومذكرات يومية دونها على مدى عقود. ولدهشتهم، اكتشفوا أن سليم لم يكن مجنونًا كما اعتقدوا، بل كان عالمًا وشاعرًا ومراقبًا دقيقًا للطبيعة.
في مذكراته، كتب سليم عن النقوش التي اكتشفها، وعن التحذير من زلزال مدمر سيضرب المنطقة. وقد لاحظ على مدى سنوات تغيرات طفيفة في الطبيعة، وتنبأ بأن الزلزال سيحدث خلال شهر من وفاته.
بدأ الناس في القرية ينظرون إلى مذكرات سليم بجدية متزايدة، خاصة بعد أن لاحظوا بعض العلامات التي وصفها. وبعد أسبوعين من وفاته، قرر سكان القرية الاستماع إلى تحذيراته واتخاذ الاحتياطات. نقلوا ماشيتهم وأغراضهم الثمينة إلى منطقة أكثر أمانًا، وبعضهم غادر القرية مؤقتًا.
وبالفعل، في اليوم الثلاثين بعد وفاة سليم، ضرب زلزال قوي المنطقة، مدمرًا جزءًا كبيرًا من القرية. لكن بفضل تحذيرات سليم، لم يفقد أحد حياته، وتمكن الناس من إنقاذ الكثير من ممتلكاتهم.
بعد إعادة بناء القرية، شيد السكان نصبًا تذكاريًا لسليم على قمة الجبل، وأصبحت قصته تروى للأجيال الجديدة ليس كقصة مجنون، بل كقصة رجل حكيم فهم لغة الطبيعة، ووهب حياته لحماية قريته، رغم سخريتهم منه واستهزائهم به.
ومنذ ذلك الحين، عندما تهب الرياح بقوة بين جبال وادي النسيان، يقول الناس إنها صوت سليم، حارس الجبل، الذي ما زال يراقب القرية ويحميها من بعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق