.
إقصاء الٱخر: ملاحظات لتفكيك الفكر الديكتاتوري العروبي الإسلامي
.
منذ المجزرة التي قام بها تنظيم حماس الإرهابي في السابع من أكتوبر 2023، لاحظنا تزايد طوفان الكراهيّة والعنف اللفظي والتّحريض والتّخوين على مواقع التّواصل الإجتماعي، في محتواها النّاطق بالعربيّة، في إطار تصوّر ذي قطبين بين مساند لحماس وإرهابها ومساند لحقّ دولة إسرائيل في الرّدّ على من يهدّدون أمنها وإستقرارها وسلامة مواطنيها. بطبيعة الحال، معرفة الطّرف الذي يستعمل خطاب الكراهية والعنف ليست صعبة: فهو الطرف المتبنّي لوجهة النّظر الحمساوية الإيرانية الكارهة لليهود والمحرّضة ضدّهم وضدّ كل من قد تسوّل له نفسه أن يقول أيّ كلمة ضدّ حماس وقضيّتها الوهميّة التي تتاجر بها أو مع الحقّ الإسرائيلي. في هذه الحال، سيتمّ وصمك بالخيانة (خيانة من؟ أو خيانة ماذا؟ الأجوبة كثيرة ومتناقضة ولا علاقة لها بالواقع) والعمالة للغرب (اين أدلّة العمالة؟ أين الربح المادي؟ لا شيء) وإنعدام الشّرف (ما معنى الشّرف أصلا وما مقاييسه؟ لا أحد سيجيبك) وحتى تكفيرك (وما علاقة صراع سياسي أو حرب بالكفر والإيمان؟ لا علاقة) وتهديدك بالتّصفية، في إستعادة واضحة للطبيعة الهمجيّة التي زرعتها الثقافة القبليّة العروبيّة البدويّة الممزوجة والمتماهية مع الهمجيّة الإرهابيّة الإسلامية النابعة من القرٱن والسّنّة والأحاديث ونهيق الفقهاء ونباح الأئمة طوال أربعة عشر قرنا من هيمنة الرجعيّة الدينية وثقافة القطيع على العقول. وفي إطار هذا الإستقطاب، لم يسلم حتى المحايدون الذين يعبّرون عن عدم إهتمامهم بالموضوع أصلا. فكيف تقول انّك غير مهتمّ بما يحدث لـ"إخوانك في العروبة والإسلام"؟ كيف تقول أن هذه القضيّة "العادلة" (حسب السّردية العروبيّة الإسلاميّة، بطبيعة الحال) لا تهمّك؟ ألا ترى أن الغربيّين أنفسهم يدعمون الفلسطينيين ويساندون "حقّهم في الدّفاع عن أرضهم"؟ ألا ترى الطّلاب يتظاهرون في الجامعات الامريكية رافعين علم فلسطين؟ مجاهدو حماس يدافعون عن "شرف الأمّة"، فكيف لا يهمّك الأمر؟ أنت بلا شرف وخائن لإخوانك. أنت عميل للغرب الإستعماري. أنت صهيوني عربي. أنت متصهين. إلخ.
لا جدوى من الإستفاضة في ذكر شتّى النعوت والأوصاف والشتائم، إذ لا أعتقد أن هناك من لم تعترضه هذه الاشياء وهو يتصفّح المنشورات على مواقع التّواصل. ثم أن هذا ليس موضوع المقال، فقد أردت إبداء بعض الملاحظات حول أحد أبرز تجليات الإرهاب الإسلامي أو أحد أهم مداخله: إقصاء الٱخر المخالف.
تقوم العقلية العربية الإسلامية على فكرة أحاديّة لا تقبل شريكا، وهي في الحقيقة نتيجة طبيعيّة أو إنعكاس طبيعي لفكرة التوحيد ووحدانية الإله الذي لا شريك له ولا يريد أن يُشرك به. هذه الفكرة أهمّ مدخل من مداخل الدّيكتاتورية، سواء كانت سياسية، إجتماعية، عائلية، إلخ: ديكتاتورية الإله الواحد والدين الواحد والقائد الواحد والرأي الواحد والنمط الواحد واللباس الواحد والذوق الواحد. ولو إستعرضت تاريخ الشّعوب القديمة لرأيت قمّة التّعايش السّلمي (الذي يطلق عليه البعض، نفاقٔا، لفظ "تسامح"، وهو لفظ يستبطن فكرة عدم المساواة) عند الشّعوب متعدّدة الٱلهة مثل مصر القديمة، الإغريق، الرومان. وحتّى في السردية الإسلامية (رغم أنّها جزء من كومة أكاذيب ممتدّة على اربعة عشر قرنا تمّ ترسيخها بقوّة السّيف وغسيل الأدمغة كحقيقة دون أدلّة واضحة عدا ما نقله المسلمون، وهو في مجمله محاولات نرجسية لتعظيم دينهم ورموزه مليئة بالثغرات والتناقضات والقصص الخرافية) حتى في هذه السردية يحدثونك عن أن المكعّب الحجري المسمّى الكعبة كان قبل الإسلام محاطا بالكثير من التماثيل التي يسمّونها أصناما والتي تمثّل ٱلهة الكثير من القبائل.
يقول تقيّ الدين الفاسي: "وكان جملة ما بمكة من الأصنام حول الكعبة في يوم الفتح ثلاثمائة وستون صنما، على ما رويناه عن إبن عباس، ونصّ حديثه، قال: دخل رسول الله مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، منها ما قد شُدّ بالرّصاص، وطاف على راحلته وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا، ويشير إليها، فما من صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه، حتى وقعت كلّها." (تقيّ الدين الفاسي، "الزّهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة"، الباب الأربعون، الطبعة الاولى، مكتبة الثقافة الدّينية، 2001, ص345)
بل وتخبرنا نفس السردية الإسلامية بأن كعبة قريش لم تكن الوحيدة في الجزيرة العربية، فقد كانت هناك 23 أو 24 كعبة مماثلة لكعبة مكّة يحجّ إليها العرب قبل الإسلام، من بينها كعبة اللاّت بالطّائف وكعبة مناة وكعبة العزى وكعبة غطفان وكعبة نجران وكعبة رئام وكعبة ذي الخلصة، إلخ (المصادر: جواد علي، "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام" وإبن السائب الكلبي، "كتاب الأصنام") ورغم إختلاف أشكالها واحجامها من مكان إلى ٱخر، إلّا أنّها كلّها كانت بيوتا لٱلهة قبائل مختلفة. وأكثر من ذلك، كانت هناك في جزيرة العرب قبائل تدين باليهودية أو النصرانية (أريوسيّة أو نسطوريّة)... وحتى في قريش، كان هناك عائلات يهودية ونصرانيّة، ولعل أشهر مثال هو ورقة بن نوفل، إبن عمٌ خديجة بنت خويلد، الذي قيل عنه: "وأما ورقة بن نوفل فقد تنصّر، فاستحكم في النّصرانيّة، واتّبع الكتب من أهلها، حتّى علم علما كثيرا من أهل الكتاب". (إبن إسحاق، السّيرة النّبويّة، دار الكتب العلميّة، ج1، بيروت، 2004، ص162) لكن رغم كل هذا، لم تنقل لنا نفس السردية الإسلامية أن تلك القبائل ذوات الٱلهة المختلفة قد نشبت بينها حروب أو تمّت فيها جرائم بسبب إختلاف ٱلهتهم ومعتقداتهم. والحروب التي نُقلت لنا لأخبارها كانت أسبابها مادية بحتة متعلقة بالسيطرة على الموارد في تلك البيئة الصحراوية الشحيحة، أو شخصيّة كالعداوة بين شخصين أو طلبا لثأر. أما الجرائم فكانت في معظمها مرتكبة من طرف الصعاليك الخارجين عن قوانين وأعراف قبائلهم.
لم يُصبح الإختلاف مشكلة إلّا بإدّعاء محمد بن ٱمنة النّبوّة وإحتكاره لكلّ شيء: بداية من فكرة الإله (فإله الإسلام هو الوحيد الحقيقي وباقي الٱلهة أصنام وخرافات لا تنفع - رغم أنّ إله محمّد نفسه لم يثبت أنّه موجود أصلا، حتى نتساءل عن نفعه من عدمه). فتمّ تحطيم كل تماثيل ٱلهة العرب وإجبار أهل قريش على دخول الإسلام بحدّ السّيف وتمّ إضطهاد النّصارى واليهود وقتلهم وطردهم من أراضيهم. وتمّت تصفية كل من قال كلمة نقد أو سخرية في حقّ محمد أو قرٱنه أو ربّه. وقصّة النّضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط أبرز مثال على بداية تغلغل فكرة إقصاء الٱخر المخالف، ولو كانت هذه المخالفة مقتصرة على إبداء رأي أو إنتقاد فكرة. أنت تخالفني الرّأي، إذن أنت تستحقّ أن أقتلك.
والإسلام هو الدين الوحيد الذي يعرّف نفسه بإقصائه للٱخر. فحتى الشهادتان اللتان ينطقهما المسلم إقصاء. فالقول "أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله"، إضافة إلى كونها شهادة زور، تعني حرفيّا أن كلّ الٱلهة خرافات وأنّ الإله الوحيد والحقيقي هو الله الإسلامي. وبالتالي، فالإسلام بطبيعته مبني على تسفيه الديانات الأخرى وتكذيبها، عوض أن يكون مكتفيا بنفسه معرّفا لذاته بطريقة تتجنّب إفتعال المشاكل مع الٱخرين كالقول "أشهد أن إلهي هو الله"،
هذه بعض الملاحظات أردت أن أسوقها، وللحديث بقية.